فصل: بيان عظيم خطر اللسان وفضيلة الصمت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


كتاب آفات اللسان

وهو الكتاب الرابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وعدله وألهمه نور الإيمان فزينه وجمله وعلمه البيان فقدمه به وفضله وأفاض على قلبه خزائن العلوم فأكمله ثم أرسل عليه ستراً من رحمته وأسبله ثم أمده بلسان يترجم به عما حواه القلب وعقله ويكشف عنه ستره الذي أرسله وأطلق بالحق مقوله وأفصح بالشكر عما أولاه وخوله من علم حصله ونطق سهله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله الذي أكرمه وبجله ونبيه الذي

أرسله بكتاب أنزله وأسمى فضله وبين سبله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن قبله ما كبر الله عند وهلله‏.‏

أما بعد‏:‏ فإن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبه فإنه صغير جرمه عظيم طاعته وجرمه إذا لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان ثم إنه ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق متخيل أو معلوم مظنون أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي فإن كل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل ولا شيء إلا والعلم متناول له وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور والآذان لا تصل إلى غير الأصوات واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذا سائر الأعضاء‏.‏

واللسان رحب الميدان ليس له مرد ولا لمجاله منتهى وحد له في الخير مجال رحب وله في الشر ذيل سحب فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله وعلم ما يحمد فيه إطلاق اللسان أو يذم غامض عزيز والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤنة في تحريكه وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله والحذر من مصائده وحبائله وإنه أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان‏.‏

ونحن بتوفيق الله وحسن تدبيره نفصل مجامع آفات اللسان ونذكرها واحدة واحدة بحدودها وأسبابها وغوائلها‏.‏

ونعرف طريق الاحتراز عنها ونورد ما ورد من الأخبار والآثار في ذمها‏.‏

فنذكر أولاً فضل الصمت ونردفه بذكر آفة الكلام فيما لا يعني ثم آفة فضول الكلام ثم آفة الخوض في الباطل ثم آفة المراء والجدال ثم آفة الخصومة ثم آفة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه وغير ذلك مما جرت به عادة المتفاصحين

المدعين للخطابة ثم آفة الفحش والسب وبذاءة اللسان ثم آفة اللعن إما لحيوان أو جماد أو إنسان ثم آفة الغناء بالشعر - وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل فلا نعيده - ثم آفة المزاح ثم آفة السخرية والاستهزاء ثم آفة إفشاء السر ثم آفة الوعد الكاذب ثم آفة الكذب في القول واليمين ثم بيان التعارض في الكذب ثم آفة الغيبة ثم آفة النميمة ثم آفة ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين فيكلم كل واحد بكلام يوافقه ثم آفة المدح ثم آفة الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته ويرتبط بأصول الدين ثم آفة سؤال العوام عن صفات الله عز وجل وعن الحروف أهي قديمة أو محدثة وهي آخر الآفات وما يتعلق بذلك وجملتها عشرون آفة ونسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه‏.‏

بيان عظيم خطر اللسان وفضيلة الصمت

اعلم أن خطر اللسان عظيم ولا نجاة من خطره إلا بالصمت فلذلك مدح الشرع الصمت وحث عليه فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من صمت نجا وقال عله السلام ‏"‏ الصمت حكم وقليل فاعله أي حمة وحزم‏.‏

وروى عبد الله بن سفيان عن أبيه قال‏:‏ قلت يا رسول الله أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحداً بعدك قال ‏"‏ قل آمنت بالله ثم استقم ‏"‏ قال‏:‏ قلت فما أتقي فأوما بيده إلى لسانه وقال عقبة بن عامر‏:‏ قلت يا رسول الله ما النجاة قال ‏"‏ أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وأبك على خطيئتك وقال سهل بن سعد الساعدي‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من وفى شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقى الشركله القبقب‏:‏ هو البطن والذبذب‏:‏ الفرج واللقلق‏:‏ اللسان‏.‏

فهذه الشهوات الثلاث بها يهلك أكثر الخلق ولذلك اشتغلنا بذكر آفات اللسان لما فرغنا من ذكر آفة الشهوتين البطن والفرج وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس في الجنة فقال ‏"‏ تقوى الله وحسن الخلق ‏"‏ وسئل عن أكثر ما يدخل النار فقال ‏"‏ الأجوفان‏:‏ الفم والفرج فيحتمل أن يكون المراد بالفم آفات اللسان لأنه محله ويحتمل أن يكون المراد به البطن لأنه منفذه فقد قال معاذ بن جبل‏:‏ قلت يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول فقال ‏"‏ ثكلتك أمك يا ابن جبل وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وقال عبد الله الثقفي‏:‏ قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به فقال ‏"‏ قل ربي الله ثم استقم ‏"‏ قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي فأخذ بلسانه وقال ‏"‏ هذا وروي أن معاذاً قال‏:‏ يا رسول الله أي الأعمال أفضل فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لسانه ثم وضع عليه أصبعه وقال أنس بن مالك‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من سره أن يسلم فليلزم الصمت وعن سعيد بن جبير مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان أي تقول اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يمد لسانه بيده فقال له‏:‏ ما تصنع يا خليفة رسول الله قال هذا أوردني الموارد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته وعن ابن مسعود أنه كان على الصفا يلبي ويقول‏:‏ يا لسان قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم فقيل له يا أبا عبد الرحمن أهذا شيء تقوله أو شيء سمعته فقال‏:‏ لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه وقال ابن عمر‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كف لسانه ستر الله عورته ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره وروي أن معاذ بن جبل قال‏.‏

يا رسول الله أوصني قال ‏"‏ اعبد الله كأنك تراه وعد نفسك في الموتى وإن شئت أنبأتك بما هو أملك لك من هذا كله ‏"‏ وأشار بيده إلى لسانه وعن صفوان بن سليم قال‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن‏.‏

الصمت وحسن الخلق‏.‏

وقال أبو هريرة‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت وقال الحسن ‏"‏ ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ رحم الله عبداً تكلم فغنم أو سكت فسلم وقيل لعيسى عليه السلام‏:‏ دلنا على عمل ندخل به الجنة قال‏:‏ لا تنطقوا أبداً قالوا‏:‏ لا نستطيع ذلك فقال‏:‏ فلا تنطقوا إلا بخير‏.‏

وقال سليمان بن داود عليهما السلام‏:‏ إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب‏.‏

وعن البراء بن عازب قال‏:‏ جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ دلني على عمل يدخلني الجنة قال ‏"‏ أطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله عند لسان كل قائل فليتق الله امرؤ علم ما يقول ‏"‏ وقال عليه السلام ‏"‏ الناس ثلاثة‏:‏ غانم وسالم وشاحب‏.‏

فالغانم الذي يذكر الله تعالى والسالم الساكت والشاحب الذي يخوض في الباطل وقال عليه السلام ‏"‏ إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه بلسانه وإن لسان المنافق أمام قلبه فإذا هم بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه وقال عيسى عليه السلام‏:‏ العبادة عشرة أجزاء‏:‏ تسعة منها في الصمت وجزء في الفرار من الناس وقال نبينا صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به‏.‏

الآثار‏:‏ كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام وكان يشير إلى لسانه ويقول‏:‏ هذا الذي أوردني الموارد‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان‏.‏

وقال طاوس‏:‏ لساني سبع إن أرسلته أكلني‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ في حكمة آل داود حق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ كتب إلينا عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أما بعد‏:‏ فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الصمت يجمع للرجل فضيلتين السلامة في دينه والفهم عن صاحبه‏.‏

وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار‏:‏ يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم‏.‏

وقال يونس بن عبيد‏:‏ ما من الناس أحد يكون منه لسان على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله‏.‏

وقال الحسن تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت فقال له‏:‏ مالك يا أبا بحر لا تتكلم فقال له‏:‏ أخشى الله إن كذبت وأخشاك إن صدقت‏.‏

وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ اجتمع أربعة ملوك ملك الهند وملك الصين وكسرى وقيصر فقال أحدهم‏:‏ أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل وقال الآخر‏:‏ إني إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني وقال الثالث‏:‏ عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته وإن لم ترجع لم تنفعه وقال الرابع‏:‏ أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت‏.‏

وقيل‏:‏ أقام المنصور بن المعتز لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة أربعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ ما تكلم الربيع بن خيثم بكلام الدنيا عشرين سنة وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والرياء والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات‏.‏

فهذه آفات كثيرة وهي سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب فإن ذلك من غوامض العلم - كما سيأتي تفصيله - ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة فلذلك عظمت فضيلته هذا مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة‏.‏

فقد قال الله تعالى ‏"‏ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ‏"‏‏.‏

ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر وهو أن الكلام أربعة أقسام‏:‏ قسم هو ضرر محض وقسم هو نفع محض وقسم فيه ضرر ومنفعة وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة‏.‏

أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر‏.‏

وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران فلا يبقى إلا القسم الرابع فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي الربع وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطراً‏.‏

ومن عرف دقائق آفات اللسان - على ما سنذكره - علم قطعاً أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصل الخطاب حيث قال ‏"‏ من صمت نجا فلقد أوتى والله جواهر الحكم قطعا وجوامع الكلم ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء وفيما سنذكره من الآفات وعسر الاحتراز عنها ما يعرفك حقيقة ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

ونحن الآن نعد آفات اللسان ونبتدئ بأخفها ونترقى إلى الأغلظ قليلاً ونؤخر الكلام في الغيبة والنميمة والكذب فإن النظر فيها أطول وهي عشرون آفة فاعلم ذلك ترشد بعون الله تعالى‏.‏

الآفة الأولى الكلام فيما لا يعنيك اعلم أن أحسن أحوالك أن تحفظ ألفاظك من جميع الآفات التي ذكرناها من الغيبة والنميمة والكذب والرياء والجدال وغيرها وتتكلم فيما هو مباح لا ضرر عليك فيه وعلى مسلم أصلاً إلا أنك تتكلم بما أنت مستغن عنه ولا حاجة بك إليه فإنك مضيع به زمانك ومحاسب على عمل لسانك وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير لأنك لو صرفت زمان الكلام إلى الفكر ربما كان ينفتح لك من نفحات رحمة الله عند الفكر ما يعظم جدواه ولو هللت الله سبحانه وذكرته وسبحته لكان خيراً لك فكم من كلمة يبنى بها قصراً في الجنة ومن قدر على أن يأخذ كنزاً من الكنوز فأخذ مكانه مدرة لا ينتفع بها كان خاسراً خسراناً مبيناً‏.‏

وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى واشتغل بمباح لا يعنيه فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله تعالى فإن المؤمن لا يكون صمته إلا فكرا ونظرة وعبرة ونطقه إلا ذكراً هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

بل رأس مال العبد أوقاته ومهما صرفها إلى ما لا يعنيه ولم يدخر بها ثواباً في الآخرة فقد ضيع رأس ماله‏.‏

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه بل ورد ما هو أشد من هذا قال أنس‏:‏ استشهد غلام منا يوم أحد فوجدنا على بطنه حجراً مربوطاً من الجوع فمسحت أمه عن وجهه التراب وقالت هنيئاً لك الجنة يا بني فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وما يدرك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره وفي حديث آخر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كعباً فسأل عنه فقالوا مريض فخرج يمشي حتى أتاه فلما دخل عليه قال ‏"‏ أبشر يا كعب ‏"‏ فقالت أمه هنيئاً لك الجنة يا كعب فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من هذه المتألية على الله ‏"‏ قال‏:‏ هي أمي يا رسول الله قال ‏"‏ وما يدريك يا أم كعب لعل كعباً قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه ومعناه أنه إنما تتهيأ الجنة لمن لا يحاسب ومن تكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه وإن كان كلامه غير مباح فلا تتهيأ الجنة مع المناقشة في الحساب فإنه نوع من العذاب‏.‏

وعن محمد بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة ‏"‏ فدخل عبد الله بن سلام فقال إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك وقالوا‏:‏ أخبرنا بأوثق عمل في نفسك ترجو به فقال‏:‏ إني لضعيف وإن أوثق ما أرجو به الله سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني وقال أبو ذر‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا أعلمك بعمل خفيف على البدن ثقيل في الميزان ‏"‏ قلت‏:‏ بلى يا

رسول الله قال ‏"‏ هو الصمت وحسن الخلق وترك ما لا يعنيك وقال مجاهد‏.‏

سمعت ابن عباس يقول خمس لهن أحب إلى من الدهم الموقوفة‏:‏ لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت ولا تمار حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به وأعفه مما تحب أن يعفيك منه وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاحترام‏.‏

وقيل للقمان الحكيم‏:‏ ما حكمتك قال‏:‏ لا أسأل عما كفيت ولا أتكلف ما لا يعنيني‏.‏

وقال مورق العجلي‏:‏ أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه قالوا‏:‏ وما هو قال‏:‏ السكوت عما لا يعنيني‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه لا تتعرض لما لا يعنيك واعتزل وأحذر صديقك من القوم

إلا الأمين ولا أمين إلا من خشى الله تعالى ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى‏.‏

وحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لن تأثم ولم تستضر به في حال ولا مال مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار وما وقع لك من الوقائع وما استحسنته من الأطعمة والثياب وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم‏.‏

فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تستضر‏.‏

وإذا بالغت في الجهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة ولا اغتياب لشخص ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك - وأنى تسلم من الآفات التي ذكرناها - ومن جملتها أن تسأل غيرك عما لا يعنيك فأنت بالسؤال مضيع وقتك وقد الجأت صاحبك أيضاً بالجواب إلى التضييع هذا إذا كان الشيء مما يتطرق إلى السؤال عنه آفة وأكثر الأسئلة فيها آفات‏.‏

فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثلاً فتقول له‏:‏ هل أنت صائم فإن قال نعم كان مظهراً لعبادته فيدخل عليه الرياء وإن لم يدخل سقطت عبادته من ديوان السر وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات وإن قال‏:‏ لا كان كاذباً وإن سكت كان مستحقراً لك وتأذيت به وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه‏.‏

فقد عرضته بالسؤال إما للرياء أو للكذب أو للاستحقار أو للتعب في حيلة الدفع وكذلك سؤالك عن سائر عباداته وكذلك سؤالك عن المعاصي وعن كل ما يخفيه ويستحي منه‏.‏

وسؤالك عما حدث به غيرك فتقول له‏:‏ ماذا تقول وفيم أنت وكذلك ترى إنساناً في الطريق فتقول‏:‏ من أين فربما يمنعه مانع من ذكره فإن ذكره تأذى به واستحيا وإن لم يصدق وقع في الكذب وكنت السبب فيه‏.‏

‏.‏

وكذلك تسأل عن مسألة لا حاجة بك إليها والمسئول ربما لم تسمح نفسه بأن يقول لا أدري فيجيب عن غير بصيرة‏.‏

ولست أعني بالتكلم فيما لا يعني هذه الأجناس فإن هذا يتطرق إليه إثم أو ضرر‏.‏

وإنما مثال

ما لا يعني ما روي أن لقمان الحكيم دخل على داود عليه السلام وهو يسرد درعاً ولم يكن رآها قبل ذلك اليوم فجعل يتعجب مما رأى فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته فأمسك نفسه ولم يسأله فلما فرغ قام داود ولبسه ثم قال‏:‏ نعم الدرع للحرب فقال لقمان‏:‏ الصمت حكم وقليل فاعله أي حصل العلم بع من غير سؤال فاستغنى عن السؤال‏.‏

وقيل أنه كان يتردد إليه سنة وهو يريد أن يعلم ذلك من غير سؤال‏.‏

فهذا وأمثاله من الأسئلة إذا لم يكن فيه ضرر هتك ستر وتوريط في رياء وكذب هو مما لا يعني وتركه من حسن الإسلام فهذا حده‏.‏

وأما سببه الباعث عليه فالحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها‏.‏

وعلاج ذلك كله أن يعلم أن الموت بين يديه وأنه مسئول عن كل كلمة وأن أنفاسه رأس ماله‏.‏

وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين‏.‏

هذا علاج من حيث العلم وأما من حيث العمل فالعزلة أو أن يضع حصاة في فيه وأن يلزم نفسه السكوت بها عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه وضبط اللسان في هذا على غير المعتزل شديد جداً‏.‏

الآفة الثانية فضول الكلام وهو أيضاً مذموم وهذا يتناول الخوض فيما لا يعني والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة فإن من يعنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر ويمكنه أن يجسمه ويقرره ويكرره‏.‏

ومهما تأدى مقصوده بكلمة واحدة فكذر كلمتين فالثانية فضول - أي فضل عن الحاجة - وهو أيضاً مذموم - لما سبق - وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر‏.‏

قال عطاء بن أبي رباح‏:‏ إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه‏.‏

وعن بعض الصحابة قال‏:‏ إن الرجل ليكلمني بالكلام لجوابه أشهى إلى من الماء البارد إلى الظمآن فأترك جوابخ خيفة أن يكون فضولاً‏.‏

وقال مطرف‏:‏ ليعظم جلال الله في قلوبكم فلا تذكروه عند مثل قول أحدكم للكلب والحمار‏:‏ الله اخزه وما أشبه ذلك‏.‏

واعلم أن فضول الكلام لا ينحصر بل المهم محصور في كتاب الله تعالى قال الله عز وجل ‏"‏ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح الناس ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه وأنفق الفضل من ماله فانظر كيف قلب الناس الأمر في ذلك فأمسكوا فضل المال وأطلقوا فضل اللسان وعن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال‏:‏ قدمت على رسول صلى الله عليه وسلم في رهط من بني عامر فقالوا‏:‏ أنت والدنا وأنت سيدنا وأنت أفضلنا علينا فضلاً وأنت أطولنا علينا طولاً وأنت الجفنة الغراء وأنت وأنت فقال ‏"‏ قولوا قولكم ولا يستهوينكم الشيطان إشارة إلى أن اللسان إذا أطنب بالثناء ولو بالصدق فيخشى أن يستهويه الشيطان إلى الزيادة المستغنى عنها‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ أنذركم فضول كلامكم حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه فيقول حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه فيقول أبتاع لك كذا وكذا‏.‏

فيكتب كذاباً‏.‏

وقال الحسن‏:‏ يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بها ملكان كريمان يكتبان أعمالك فاعمل ما شئت وأكثر أو أقل‏.‏

وروي أن سليمان عليه السلام بعث بعض عفاريته وبعث نفراً ينظرون ما يقول ويخبرونه فأخبروه بأنه مر في السوق فرفع رأسه إلى السماء ثم نظر إلى الناس وهز رأسه فسأله سليمان عن ذلك فقال‏:‏ عجبت من الملائكة على رؤوس الناس ما أسرع ما يكتبون‏!‏ ومن الذين أسفل منهم ما أسرع ما يملون‏!‏ وقال إبراهيم التيمي‏:‏ إذا أراد المؤمن أن يتكلم نظر فإن كان له تكلم وإلا أمسك والفاجر إنما لسانه رسلاً رسلا‏.‏

وقال الحسن‏:‏ من كثر كلامه كثر كذبه ومن كثر ماله كثرت ذنوبه ومن ساء خلقه عذب نفسه وقال عمرو بن دينار‏:‏ تكلم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فأكثر فقال له صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كم دون لسانك من حجاب ‏"‏ فقال‏:‏ شفتاي وأسناني قال ‏"‏ أفما كان لك ما يرد كلامك وفي رواية‏:‏ أنه قال ذلك في رجل أثنى عليه فاستهتر في الكلام ثم قال‏:‏ ما أوتي رجلاً شراً من فضل في لسانه وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه‏:‏ إنه ليمنعني من كثير من الكلام خوف المباهاة‏.‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ إذا كان

الرجل في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت وإن كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليتكم‏.‏

وقال يزيد بن أبي حبيب‏:‏ من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع فإن وجد من يكفيه فإن في الاستماع سلامة وفي الكلام تزيين وزيادة ونقصان‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ إن أحق ما طهر الرجل لسانه‏.‏

ورأى أبو الدرداء امرأة سليطة فقال‏:‏ لو كانت هذه خرساء كان خيراً لها‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ يهلك الناس خلتان‏:‏ فضول المال وفضول الكلام‏.‏

فهذه مذمة فضول الكلام وكثرته وسببه الباعث عليه‏.‏

وعلاجه ما سبق في الكلام فيما لا يعني‏.‏

الآفة الثالثة الخوض في الباطل وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق وتنعم الأغنياء وتجبر الملوك ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه وهو حرام‏.‏

وأما الكلام فيما لا يعني أو أكثر مما يعني فهو ترك الأولى ولا تحريم فيه‏.‏

نعم من يكثر الكلام فيما لا يعني لا يؤمن عليه الخوض في الباطل‏.‏

وأكثر الناس يتجالسون للتفرج بالحديث ولا يعدو كلامهم التفكه بأعراض الناس أو الخوض في الباطل‏.‏

وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها فلذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا‏.‏

وفي هذا الجنس تقع كلمات يهلك بها صاحبها وهو يستحقرها فقد قال بلال بن الحارث‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الرجل ليتكم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن

أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة وكان علقمة يقول‏:‏ كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الرجل ليتكم بالكلمة يضحك بها جلسائه يهوي بها أبعد من الثريا وقال أبو هريرة إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقى لها بالاً يرفعه الله بها في أعلى الجنة‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل وإليه الإشارة بقوله تعالى ‏"‏ وكنا نخوض مع الخائضين ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ فلا

تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم ‏"‏ وقال سلمان‏:‏ أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله‏.‏

وقال ابن سيرين‏:‏ كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول لهم توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحديث‏.‏

فهذا هو الخوض في الباطل وهو وراء ما سيأتي من الغيبة والنميمة والفحش وغيرها بل هو الخوض في ذكر محظورات سبق وجودها أو تدبر للتوصل إليها من غير حاجة دينية إلى ذكرها‏.‏

ويدخل فيه أيضاً الخوض في حكاية البدع والمذاهب الفاسدة وحكاية ما جرى من قتال الصحابة على وجه يوهم الطعن في بعضهم‏.‏

وكل ذلك باطل والخوض فيه خوض في الباطل نسأل الله حسن العون بلطفه وكرمه‏.‏

المراء والجدال وذلك منهي عنه قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه وقال عليه السلام ‏"‏ ذروا المراء فإنه لا تفهم حكمته ولا تؤمن فتنته وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أول ما عهد إلي ربي ونهاني عنه بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر ملاحاة الرجال وقال أيضاً ‏"‏ ما ضل قوم بعد أن هداهم الله تعالى إلا أوتوا الجدل وقال أيضاً ‏"‏ لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً وقال أيضاً ‏"‏ ست من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان‏:‏ الصيام في الصيف وضرب أعداء الله بالسيف وتعجيل الصلاة في اليوم الدجن والصبر على المصيبات وإسباغ الوضوء على المكاره وترك المراء وهو صادق وقال الزبير لابنه‏:‏ لا تجادل الناس بالقرآن فإنك لا تستطيعهم ولكن عليك بالسنة‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه‏:‏ من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل‏.‏

وقال مسلم بن يسار‏:‏ إياكم والمراء فإنه ساعة جهل العالم وعندها يبتغي الشيطان زلته‏.‏

وقيل‏:‏ ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله إلا بالجدل‏.‏

وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه‏:‏ ليس هذا الجدل من الدين في شيء‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن‏.‏

وقال لقمان لابنه‏:‏ يا بني لا تجادل العلماء فيمقتوك وقال بلال بن سعد‏:‏ إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته‏.‏

وقال سفيان‏:‏ لو خالفت أخي في رمانة فقال حلوة وقلت حامضة لسعى بي إلى السلطان‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ صاف من شئت ثم أغضبه بالمراء فليرمينك بداهية تمنعك العيش‏.‏

وقال ابن أبي ليلى‏:‏ لا أماري صاحبي فإما أن أكذبه وإما أن أغضبه‏.‏

وقال أبو الدرداء‏:‏ كفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تكفين كل لحاء ركعتان وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا تتعلم العلم لثلاث ولا تتركه لثلاث‏.‏

لا تتعلمه لتتمارى به ولا لتباهي به ولا لترائي به‏.‏

ولا تتركه حياء من طلبه ولا زهادة فيه ولا رضا بالجهل به‏.‏

وقال عيسى عليه السلام من كثر كذبه ذهب جماله ومن لاحى الرجال سقطت مروءته ومن كثر همه سقم جسمه ومن ساء خلقه عذب نفسه‏.‏

وقيل لميمون بن مهران‏:‏ ما لك لا تترك أخاك عن قلى قال‏:‏ لأني لا أشاريه ولا أماريه‏.‏

وما ورد في ذم المراء والجدال أكثر من أن يحصى‏.‏

وحد المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم‏.‏

وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض‏.‏

فكل كلام سمعته فإن كان حقاً فصدق والطعن في كلام الغير تارة يكون في لفظه بإظهار خلل فيه من جهة النحو أو من جهة اللغة أو من جهة العربية أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير‏.‏

وذلك يكون تارة من قصور المعرفة وتارة يكون بطغيان اللسان‏.‏

وكيفما كان فلا وجه لإظهار خلله‏.‏

وأما في المعنى‏:‏ فبأن يقول ليس كما تقول وقد أخطأ فيه من وجه كذا وكذا‏.‏

وأما في قصده فمثل أن يقول هذا الكلام حق ولكن ليس قصدك منه الحق وإنما أنت فيه صاحب غرض وما يجري مجراه وهذا الجنس إن جرى في مسألة علمية ربما خص باسم الجدل وهو أيضاً مذموم بل الواجب السكوت أو السؤال في معرض الاستفادة لا على وجه العناد والنكارة أو التلطف في التعريف لا في معرض الطعن‏.‏

وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه وآية ذلك أن يكون تنبيهه للحق من جهة أخرى مكروهاً عند المجادل يحب

أن يكون هو المظهر له خطأ ليبين به فضل نفسه ونقص صاحبه ولا نجاة من هذا إلا بالسكوت

عن كل ما لا يأثم به لو سكت عنه‏.‏

وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل والتهجم على الغير بإظهار نقصه‏.‏

وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها‏.‏

أما إظهار الفضل‏:‏ فهو من قبل تزكية النفس وهي من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلو والكبرياء وهي من صفات الربوبية‏.‏

وأما تنقيض الآخر فهو من مقتضى طبع السبعية فإنه يقتضي أن يمزق غيره ويقصمه ويصدمه ويؤذيه وهاتان صفتان مذمومتان مهلكتان وإنما قوتهما المراء والجدال‏.‏

فالمواظب على المراء والجدال مقو لهذه الصفات المهلكة وهذا مجاوز حد الكراهة بل هو معصية مهما حصل فيه إيذاء الغير‏.‏

ولا تنفك المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب وحمل المعترض عليه على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حق أو باطل ويقدح في قائله بكل ما يتصور له فيثور الشجار بين المتمارين كما يثور الهراش بين الكلبين يقصد كل واحد منهما أن يعض صاحبه بما هو أعظم نكاية وأقوى في إفحامه وإلجامه‏.‏

وأما علاجه‏:‏ فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله والسبعية الباعث له على تنقيص غيره - كما سيأتي ذلك في كتاب ذم الكبر والعجب وكتاب ذم الغضب - فإن علاج كل على بإماطة سببها‏.‏

وسبب المراء والجدال ما ذكرناه ثم المواظبة عليه تجعله عادة طبعاً حتى يتمكن من النفس ويعسر الصبر عنه‏.‏

روي أن أبا حنيفة رحمة الله عليه قال لداود الطائي‏:‏ لم آثرت الإنزواء قال‏:‏ لأجاهد نفسي بترك الجدال فقال احضر المجالس واستمع ما يقال ولا تتكلم قال‏:‏ ففعلت فما رأيت مجاهدة أشد علي منها‏.‏

وهو كما قال لأن من سمع الخطأ من غيره وهو قادر على كشفه يعسر عليه الصبر عند ذلك جداً‏.‏

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتاً في أعلى الجنة لشدة ذلك على النفس وأكثر ما يغلب ذلك في المذاهب والعقائد‏.‏

فإن المراء طبع فإذا ظن أن له عليه ثواباً اشتد عليه حرصه وتعاون الطبع والشرع عليه وذلك خطأ محض بل ينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة وإذا رأى مبتدعاً تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال‏.‏

فإن الجدال يخيل إليه أنها حيلة منه في التلبيس وأن ذلك صنعة يقدر المجادلون من أهل مذهبه على أمثالها لو أرادوا فتستمر البدعة في قلبه بالجدل وتتأكد فإذا عرف أن النصح لا ينفع اشتغل بنفسه وتركه وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه وقال هشام بن عروة‏:‏ كان عليه السلام يردد قوله هذا سبع مرات‏:‏ وكل من اعتاد المجادلة مدة وأثنى الناس عليه ووجد لنفسه بسببه عزاً وقبولاً قويت فيه هذه المهلكات ولا يستطيع عنها نزوعاً إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر والرياء وحب الجاه والتعزز بالفضل‏.‏

وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها فكيف بمجموعها الآفة الخامسة وهي أيضاً مذمومة وهي وراء الجدال والمراء فالمراء طعن في كلام الغير بإظهار خلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير‏.‏

وإظهار مزية الكياسة والجدال وعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها‏.‏

والخصومة لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود وذلك تارة يكون ابتداء وتارة يكون اعتراضاً‏.‏

والمراء لا يكون إلا باعتراض على كلام سبق‏.‏

فقد قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع وقال بعضهم‏:‏ إياك والخصومة فإنها تمحق الدين‏.‏

ويقال‏:‏ ما خاصم ورع قط في الدين‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ مر بي بشر بن عبد الله بن أبي بكرة فقال‏:‏ ما يجلسك ههنا قلت‏:‏ خصومة بيني وبين ابن عم لي فقال‏:‏ إن لأبيك عندي يداً وإني أريد أن أجزيك بها وإني والله ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للذة وأشغل للقلب من الخصومة قال‏:‏ فقمت لأنصرف فقال لي خصمي‏:‏ ما لك قلت‏:‏ لا أخاصمك قال‏:‏ إنك عرفت أن الحق لي قلت‏:‏ لا ولكن أكرم نفسي عن هذا قال‏:‏ فإني لا أطلب منك شيئاً هو لك‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإذا كان للإنسان حق فلا بد له من الخصومة في طلبه أو في حفظه مهما ظلمه ظالم فكيف يكون حكمه وكيف تذم خصومته فاعلم أن هذا الذم يتناول الذي يخاصم بالباطل والذي يخاصم بغير علم مثل وكيف القاضي فإنه قبل أن يتعرف أن الحق في أي جانب هو يتوكل في الخصومة من أي جانب كان فيخاصم بغير علم ويتناول الذي يطلب حقه ولكنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد في الخصومة على قصد التسلط أو على قصد الإيذاء ويتناول الذي يمزج بالخصومة كلمات مؤذية ليس يحتاج إليها في نصرة الحجة وإظهار الحق ويتناول الذي يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره مع أنه قد يستحقر ذلك القدر من المال وفي الناس من يصرح به ويقول‏:‏ إنما قصدي عناده وكسر عرضه وإني إن أخذت منه هذا المال ربما رميت به في بئر ولا أبالي وهذا مقصوده اللدد والخصومة واللجاج وهو مذموم جداً‏.‏

فأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على قدر الحاجة ومن غير قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلاً فإنضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر والخصومة توغر الصدر وتهييج الغضب وإذا هاج الغضب نسي المتنازع فيه وبقي الحقد بين المتخاصمين حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه فمن بدأ بالخصومة فقد تعرض لهذه المحذورات وقال ما فيه تشويش خاطره حتى إنه في صلاته يشتغل بمحاجة خصمه فلا يبقى الأمر على حد الواجب فالخصومة مبدأ كل شر وكذا المراء والجدل فينبغي أن لا يفتح بابه إلا لضرورة وعند الضرورة ينبغي أن يحفظ اللسان والقلب عن تبعات الخصومة وذلك متعذر جداً فمن اقتصر على الواجب في خصومته سلم من الإثم ولا تذم خصومته إلا أنه إن كان مستغنياً عن الخصومة فيما خاصم فيه لأن عنده ما يكفيه فيكون تاركاً للأولى ولا يكون آثماً نعم أقل ما يفوته في الخصومة والمراء والجدال طيب الكلام وما ورد فيه من الثواب إذ أقل درجات طيب الكلام إظهار ولا خشونة في الكلام أعظم من الطعن والاعتراض الذي حاصله إما تجهيل وإما تكذيب فإن من جادل غيره أو ماراه أو خاصمه فقد جهله أو كذبه فيفوت به طيب الكلام‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يمكنكم من الجنة طيب الكلام وإطعام الطعام وقد قال الله تعالى ‏"‏ وقولوا للناس حسناً ‏"‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه السلام وإن كان مجوسياً إن الله تعالى يقول ‏"‏ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ‏"‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه‏.‏

وقال أنس‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن في الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من

ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وروي أن عيسى عليه السلام مر به خنزير فقال ‏"‏ مر بسلام فقيل‏:‏ يا روح الله أتقول هذا لخنزير فقال‏:‏ أكره أن أعود لساني الشر‏.‏

وقال نبينا عليه السلام ‏"‏ الكلمة الطيبة صدقة وقال ‏"‏ اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة وقال عمر رضي الله عنه البر شيء هين وجه طليق وكلام لين‏.‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة في الجوارح‏.‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ كل كلام لا يسخط ربك إلا أنك ترضي به جليسك فلا تكن به عليه بخيلاً فإنه لعله يعوضك منه ثواب المحسنين‏.‏

وهذا كله في فضل الكلام الطيب وتضاده الخصومة والمراء والجدال واللجاج فإنه الكلام المستكره الموحش المؤذي للقلب المنغص للعيش المهيج للغضب الموغر للصدر‏.‏

نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه‏.‏

الآفة السادسة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه بالتشبيبات والمقدمات وما جرى به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة وكل ذلك من التصنع المذموم ومن التكلف الممقوت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنا وأتقياء أمتي برءاء من التكلف ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً الثرثارون المتفيقهون المتشدقون في الكلام وقالت فاطنة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا هلك المتنطعون - ثلاث مرات - والتنطع هو التعمق والاستقصاء‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان‏.‏

وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى أبيه سعد يسأله حاجة فتكلم بين يدي حاجته بكلام فقال له سعد‏:‏ ما كنت من حاجتك بأبعد منك اليوم‏!‏ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقرة الكلأ بلسانها وكأنه أنكر عليه ما قدمه على الكلام من التشبب والمقدمة المصنوعة المتكلفة‏.‏

وهذا أيضاً من آفات اللسان ويدخل فيه كل سجع متكلف وكذلك التفاصح الخارج عن حد العادة وكذلك التكلف بالسجع في المحاورات ‏"‏ إذ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة الجنين فقال بعض قوم الجاني‏:‏ كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال ‏"‏ أسجعاً كسجع الأعراب وأنكر ذلك لأن أثر التكلف والتصنع بين عليه بل ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده‏:‏ ومقصود الكلام التفهيم للغرض وما وراء ذلك تصنع مذموم‏.‏

ولا يدخل في هذه تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراد وإغراب فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها وقبضها وبسطها فرشاقة اللفظ تأثير فيه فهو لائق به‏.‏

فأما المحاورات التي تجري لقضاء الحاجات فلا يليق بها السجع والتشدق والاشتغال به من التكلف المذموم ولا باعث عليه إلا الرياء وإظهار الفصاحة والتميز بالبراعة وكل ذلك مذموم يكرهه الشرع ويزجر عنه‏.‏

الآفة السابعة الفحش والسب وبذاءة اللسان وهو مذموم ومنهي عنه ومصدره الخبث واللؤم قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إياكم والفحش فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن تسب قتلى بدر من المشركين فقال ‏"‏ لا تسبوا هؤلاء فإنه لا يخلص إليهم شيء مما تقولون وتؤذون الأحياء ألا إن البذاء لؤم وقال صلى الله عليه وسلم ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الجنة حرام على كل فاحش أن يدخلها وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أربعة يؤذون أهل النار في النار على ما بهم من الأذى يسعون بين الحميم والجحيم يدعون بالويل والثبور‏:‏ رجل يسيل فوه قيحاً ودماً فيقال له ما بال الأبعد قد آذاناً على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد كان ينظر إلى كل كلمة قذعة خبيثة فيستلذها كما يستلذ الرفث وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة يا عائشة ‏"‏ لو كان الفحش رجلاً لكان رجل سوء وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ البذاء والبيان شعبتان من شعب النفاق فيحتمل أن يراد بالبيان في أمور الدين وفي صفات الله تعالى فإن إلقاء ذلك مجملاً إلى أسماع العوام أولى من المبالغة في بيانه إذ قد يثور من غاية البيان فيه شكوك ووساوس فإذا أجملت بادرت القلوب إلى القبول ولم تضطرب ولكن ذكره مقروناً بالبذاء يشبه أن يكون المراد به المجاهرة بما يستحي الإنسان من بيانه فإن الأولى في مثله الإغماض والتغافل دون الكشف والبيان وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله لا يحب الفاحش المتفحش الصياح في الأسواق وقال جابر بن سمرة‏:‏ كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم وأبي أمامي فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الفحش والتفاحش ليسا من الإسلام في شيء وإن أحسن الناس إسلاماً أحاسنهم أخلاقاً وقال إبراهيم بن ميسرة يقال يؤتى بالفاحش المتفحش يوم القيامة في صورة كلب أو في جوف كلب‏.‏

وقال الأحنف بن قيس‏:‏ ألا أخبركم بأدوإ الداء‏:‏ اللسان البذي والخلق الدني‏.‏

فهذه مذمة الفحش فأما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه وأهل الصلاح يتحاشون عنها بل يكنون عنها‏.‏

ويدلون عليها بالرموز فيذكرون ما يقاربها ويتعلق بها وقال ابن عباس‏:‏ إن الله حي كريم يعفو ويكنو كني باللمس عن الجماع فالمسيس واللمس والدخول والصحبة كنايات عن الوقاع وليست يفاحشة‏.‏

وهناك عبارات فاحشة يستقبح ذكرها ويستعمل أكثرها في الشتم والتعيير وهذه العبارات متفاوتة في الفحش

وبعضها أفحش من بعض‏.‏

وربما اختلف ذلك بعادة البلاد وأوائلها مكروهة وأواخرها محظورة وبينهما درجات يتردد فيه وليس يختص هذا بالوقاع بل بالكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط أولى من لفظ التغوط والخراء وغيرهما فإن هذا أيضاً مما يخفى وكل ما يخفى يستحيا منه فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة فإنه فحش وكذلك يستحسن في العادة الكناية عن النساء فلا يقال‏:‏ قالت زوجتك كذا بل يقال قيل في الحجرة أو من وراء الستر أو قالت أم الأولاد‏.‏

فالتلطف في هذه الألفاظ محمود والتصريح فيها يفضي إلى الفحش وكذلك من به عيوب يستحيا منها فلا ينبغي أن يعبر عنها بصريح لفظها كالبرص والقرع والبواسير‏.‏

بل يقال العارض الذي يشكوه وما يجري مجراه فالتصريح بذلك داخل في الفحش وجميع ذلك من آفات اللسان‏.‏

قال العلاء بن هرون‏:‏ كان عمر بن عبد العزيز يتحفظ في من منطقه‏:‏ فخرج تحت إبطه خراج

فأتيناه نسأله لنرى ما يقول فقلنا‏:‏ من أين خرج فقال‏:‏ من باطن اليد‏.‏

والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث واللؤم ومن عادتهم السب‏.‏

وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أوصني فقال ‏"‏ عليك بتقوى الله وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء فيه يكن وباله عليه وأجره لك ولا تسبن شيئاً ‏"‏ قال‏:‏ فما سببت شيئاً بعده وقال عياض بن حمار‏:‏ يا رسول الله إن الرجل من قومي يسبني وهو دوني هل علي من بأس أن أنتصر منه فقال ‏"‏ المتسابان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ملعون من سب والديه وفي وراية ‏"‏ من أكبر الكبائر أن يسب الرجال والديه ‏"‏ قالوا يا رسول الله كيف يسب الرجل والديه قال ‏"‏ يسب أبا الرجل فيسب الآخر أباه ‏"‏‏.‏

الآفة الثامنة اللعن إما لحيوان أو جماد أو إنسان وكل ذلك مذموم‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ المؤمن ليس بلعان وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بجهنم وقال حذيفة‏:‏ ما تلاعن قوم قط إلا حق عليهم القول‏.‏

وقال عمران بن حصين‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إذ امرأة من الأنصار على ناقة لها فضجرت منها فلعنتها فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خذوا ما عليها وأعروها فإنها ملعونة قال‏:‏ فكأني أنظر إلى تلك الناقة تمشي بين الناس لا يتعرض لها أحد‏.‏

وقال أبو الدرداء‏:‏ ما لعن أحد الأرض إلا قالت‏:‏ لعن الله أعصانا لله‏:‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وهو يلعن بعض رقيقه فالتفت إليه وقال ‏"‏ يا أبا بكر أصديقين ولعانين كلا ورب الكعبة - مرتين أو ثلاثاً - فأعتق أبو بكر يومئذ رقيقه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ لا أعود‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة وقال أنس‏:‏ كان رجل يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير فلعن بعيره فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا عبد الله لا تسر معنا على بعين ملعون وقال ذلك إنكاراً عليه‏.‏

واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل وهو الكفر والظلم بأن يقول لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين وينبغي أن يتبع فيه لفظ الشرع فإن في اللعنة خطراً لأنه حكم على الله عز وجل بأنه قد أبعد الملعون وذلك غيب لا يطلع عليه غير الله تعالى ويطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطلعه الله عليه‏.‏

الأولى‏:‏ اللعن بالوصف الأعم كقولك لعنة الله الكافرين والمبتدعين والفسقة‏.‏

الثانية‏:‏ اللعن بأوصاف أخص منه كقولك لعنة الله على اليهود والنصارى والمجوس وعلى القدرية والخوارج والروافض أو على الزناة والظلمة وآكلي الربا وكل ذلك جائز‏.‏

ولكن في لعن أوصاف المبتدعة خطر لأن معرفة البدعة غامضة ولم يرد لفظ مأثور فينبغي أن يمنع منه العوام لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله ويثير نزاعاً بين الناس وفساداً‏.‏

الثالثة‏:‏ اللعن للشخص المعين وهذا فيه خطر كقولك‏:‏ زيد لعنه الله وهو كافر أو فاسق أو مبتدع والتفصيل فيه أن كل شخص ثبتت لعنته شرعاً فتجوز لعنته كقولك‏.‏

فرعون لعنه الله وأبو جهل لعنه الله لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعاً‏.‏

وأما شخص بعينه في زماننا كقولك زيد لعنه الله وهو يهودي مثلاً فهذا فيه خطر فإنه ربما يسلم فيموت مقرباً عند الله فكيف يحكم بكونه ملعوناً فإن قلت‏:‏ يلعن لكونه كافراً في الحال كما يقال للمسلم‏:‏ رحمه الله لكونه مسلماً في الحال وإن كان يتصور أن يرتد فاعلم أن معنى قولنا رحمه الله‏:‏ أي ثبته الله على الإسلام الذي هو سبب الرحمة وعلى الطاعة ولا يمكن أن يقال ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة فإن هذا سؤال للكفر وهو في نفسه كفر بل الجائز أن يقال‏:‏ لعنه الله إن مات على الكفر ولا لعنه الله إن مات على الإسلام‏.‏

وذلك غيب لا يدرى والمطلق متردد بين الجهتين ففيه خطر وليس في ترك اللعن خطر‏.‏

وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق أو زيد المبتدع أولى فلعن الأعيان فيه خطر لأن الأعيان تتقلب في الأحوال إلا من أعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر ولذلك عين قوماً باللعن فكان يقول في دعائه على قريش ‏"‏ اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وذكر جماعة قتلوا على الكفر حتى إن من لم

يعلم عاقبته كان يلعنه فنهى عنه إذ روي‏:‏ أنه كان يلعن الذي قتلوا أصحاب بثر معونة في قنوته شهراً فنزل قوله تعالى ‏"‏ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون يعني أنهم ربما يسلمون فمن أين تعلم أنهم ملعونون وكذلك من بان لنا موته على الكفر جاز لعنه وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى على مسلم فإن كان لم يجز كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألا أبا بكر رضي الله عنه عن قبر مر به وهو يريد الطائف فقال‏:‏ هذا قبر رجل كان عاتياً على الله ورسوله وهو سعيد بن العاص فغضب ابنه عمرو بن سعيد وقال‏:‏ يا رسول الله هذا قبر رجل كان أطعم للطعام وأضرب للهام من أبي قحافة فقال أبو بكر‏:‏ يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اكفف عن أبي بكر ‏"‏ فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال ‏"‏ يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء

للآباء فكف الناس عن ذلك وشرب نعيمان الخمر فحد مرات في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض الصحابة‏:‏ لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تكن عوناً للشيطان على أخيك وفي وراية ‏"‏ لا تقل هذا فإنه يحب الله ورسوله ‏"‏ فنهاه عن ذلك وهذا يدل على أن لعن فاسق بعينه غير جائز‏.‏

وعلى الجملة ففي لعن الأشخاص خطر فليجتنب ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن غيره‏.‏

فإن قيل‏:‏ هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به قلنا‏.‏

هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت فضلاً عن اللعنة لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق‏.‏

نعم يجوز أن يقال قتل ابن ملجم علياً وقتل أبو لؤلؤة عمر رضيالله عنهما فإن ذلك ثبت متواتراً‏.‏

فلا يجوز أن يرمى مسلم بفسق أو كفر من غير تحقيق قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يرمى رجل رجلاً بالكفر ولا يرميه بالفسق إذا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء به أحدهما إن كان كافراً فهو كما قال وإن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إياه وهذا معناه أن يكفره وهو يعلم أنه مسلم فإن

ظن أنه كافر ببدعة أو غيرها كان مخطئاً لا كافراً‏.‏

وقال معاذ‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنهاك أن تشتم مسلماً أو تعصي إماماً عادلاً والتعرض للأموات أشد قال مسروق دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت‏:‏ ما فعل فلان لعنه الله قلت توفى قالت‏:‏ رحمه الله قلت‏:‏ وكيف هذا قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا وقال عليه السلام ‏"‏ لا تسبوا الأموات فتؤذوا به الأحياء وقال عليه السالم ‏"‏ أيها الناس احفظوني في أصحابي وإخواني وأصهاري ولا تسبوهم أيها الناس إذا مات الميت فاذكروا منه خيراً‏.‏

فإن قيل فهل يجوز أن يقال‏:‏ قاتل الحسين لعنه الله أو الآمر بقتله لعنه الله قلنا‏:‏ الصواب أن يقال‏:‏ قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة فإن وحشياً قاتل حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله وهو كافر ثم تاب عن الكفر والقتل جميعاً ولا يجوز أن يلعن والقتل كبيرة ولا تنتهي إلى رتبة الكفر فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق كان فيه خطر وليس في السكوت خطر فهو أولى‏.‏

وإنما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة وإطلاق اللسان بها‏.‏

والمؤمن ليس بلعان فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون

الأشخاص المعينين‏.‏

فالاشتغال بذكر الله أولى فإن لم يكن ففي السكوت سلامة‏.‏

قال مكي بن إبراهيم‏:‏ كنا عند ابن عون فذكروا بلال بن أبي بردة فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه وابن عون ساكت فقالوا‏:‏ يا ابن عون إنما تذكره لما ارتكب منك فقال‏:‏ إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة‏:‏ لا إله إلا الله ولعن الله فلاناً فلأن يخرج من صحيفتي لا إله إلا الله أحب إلي من أن يخرج منها لعن الله فلاناً‏.‏

وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أوصني فقال ‏"‏ أوصيك أن لا تكون لعاناً وقال ابن عمر‏:‏ إن أبغض الناس إلى الله كل طعان ولعان‏.‏

وقال بعضهم لعن المؤمن يعد قتله وقال حماد بن زيد بعد أن روى هذا لو قلت إنه مرفوع لم أبال وعن أبي قتادة قال‏:‏ كان يقال ‏"‏ من لعن مؤمناً فهو مثل أن يقتله وقد نقل ذلك حديثاً مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر حتى الدعاء على الظالم كقول الإنسان مثلاً‏:‏ لا صحح الله جسمه ولا سلمه الله وما يجري مجراه فإن ذلك مذموم‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ إن المظلوم ليدعو على الظالم حتى يكافئه ثم يبقى للظالم عنده فضلة يوم القيامة‏.‏

الآفة التاسعة الغناء والشعر وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل فلا نعيده وأما الشعر فكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح غلا أن التجرد له مذموم‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لأن يمتلئ

جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً وعن مسروق أن سئل عن بيت من الشعرفكرهه فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أنا أكره أن يوجد في صحيفتي شعر‏.‏

وسئل بعضهم عن شيء من الشعر فقال‏:‏ أجعل مكان هذا ذكراً فإن ذكر الله خير من الشعر وعلى الجملة فإنشاد الشعر ونظمه ليس بحرام إذا لم يكن في كلام مستكره قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن من الشعر لحكمة نعم مقصود الشعر المدح والذم والتشبيب وقد يدخله الكذب وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت الأنصاري بهجاء الكفار والتوسع في المدح فإنه وإن كان كذباً فإنه لا يلتحق في التحريم بالكذب كقول الشاعر‏:‏ ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله فإن هذا عبارة عن الوصف بنهاية السخاء فإن لم يكن صاحبه سخياً كان كاذباً وإن كان سخياً فالمبالغة من صنعة الشعر فلا يقصد منه أن يعتقد صورته‏.‏

وقد أنشدت أبيات بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تتبعت لوجد فيها مثل ذلك فلم يمنع منه‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله وكنت جالسة أغزل فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً قالت‏:‏ فبهت فنظر إلي فقال ‏"‏ مالك بهت فقلت‏:‏ يا رسول الله نظرت إليك فجعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نوراً ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره قال ‏"‏ وما يقول يا عائشة أو كبير الهذلي ‏"‏ قلت‏:‏ يقول هذين البيتين‏:‏

ومبرأ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل

قال فوضع صلى الله عليه وسلم ما كان بيده وقام إلي وقبل ما بين عيني وقال ‏"‏ جزاك الله خيراً يا عائشة ما سررت مني كسروري منك ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين أمر للعباس بن مرداس بأربع قلائص فاندفع يشكو في شعر له وفي آخره‏:‏ وما كان بدر ولا حابس يسودان مردسا في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اقطعوا لسانه ‏"‏ فذهب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى اختار مائة من الإبل ثم رجع وهو من أرض الناس فقال له صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أتقول في الشعر ‏"‏ فجعل يعتذر إليه ويقول‏:‏ بأبي أنت وأمي إني لأجد للشعر دبيباً على لساني كدبيب النمل ثم يقرصني كما يقرص النمل فلا أجد بداً من قول الشعر فتبسم صلى الله عليه وسلم الآفة العاشرة المزاح

وأصله مذموم منهي عنه إلا قدراً يسيراً يستثنى منه قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تمار أخاك ولا تمازحه فإن قلت‏:‏ المماراة فيها إيذاء لأن فيها تكذيباً للأخ والصديق أو تجهيلاً له وأما المزاح فمطايبة وفيه انبساط وطيب قلب فلم ينهى عنه فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه أو المداومة عليه‏.‏

أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل فيه واللعب مباح ولكن المواظبة عليه مذمومة وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك وكثرة الضحك تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال وتسقط المهابة والوقار‏.‏

فما يخلو عن هذه الأمور فلا يذم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ إن لأمزح ولا أقول إلا حقاً إلا أن مثله يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقاً وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يضحك الناس كيفما كان‏.‏

وقد قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الرجل ليتكم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوى في النار أبعد من الثريا وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ من كثير ضحكه قلت هيبته ومن مزح استخف به ومن أكثر من شيء عرف به ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياءه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه‏.‏

ولأن الضحك يدل على الغفلة عن الآخرة قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً وقال رجل لأخيه‏:‏ يا أخي هل أتاك أنك وارد النار قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل أتاك أنك خارج منها قال‏:‏ لا قال‏:‏ ففيم الضحك قيل فما رؤي ضاحكاً حتى مات‏.‏

وقال يوسف بن أسباط‏:‏ أقام الحسن ثلاثين سنة لم يضحك‏.‏

وقيل أقام عطاء السلمي أربعين سنة لم يضحك ونظر وهيب بن الورد إلى قوم يضحكون في عيد فطر فقال‏:‏ إن كان هؤلاء قد غفر لهم فما هذا فعل الشاكرين وإن كان لم يغفر لهم فما هذا فعل الخائفين وكان عبد الله بن أبي يعلى يقول‏:‏ أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار وقال ابن عباس‏:‏ من أذنب ذنباً وهو يضحك دخل النار وهو يبكي‏.‏

وقال محمد بن واسع‏:‏ إذا رأيت في الجنة رجلاً يبكي ألست تعجب من بكائه قيل‏:‏ بلى قال‏:‏ فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه فهذه آفة الضحك والمذموم منه أن يستغرق ضحكاً والمحمود منه التبسم الذي ينكشف فيه السن ولا يسمع له صوت‏.‏

وكذلك كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القاسم مولى معاوية‏:‏ أقبل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على قلوص له صعب فسلم فجعل كلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله يفر به فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون منه ففعل ذلك مراراً ثم وقصه فقتله فقيل‏:‏ يا رسول الله إن الأعرابي قد صرعه قلوصه وقد هلك فقال ‏"‏ نعم وأفواهكم ملأى من دمه وأما أداء المزاح إلى سقوط الوقار فقد قال عمر رضي الله عنه‏:‏ من مزح استخف به‏.‏

وقال محمد بن المنكدر‏:‏ قالت لي أمي يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عندهم وقال سعيد بن العاص لابنه‏:‏ يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنيء فيجترئ عليك‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى‏:‏ اتقوا الله وإياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح تحدثوا بالقرآن وتجالسوا به فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أتدرون لم سمي المزاح مزاحاً قالوا لا قال‏:‏ لأنه أزاح صاحبه عن الحق‏.‏

وقيل‏:‏ لكل شيء بذور وبذور العداوة المزاح‏.‏

ويقال‏:‏ المزاح مسلبة للنهي مقطعة للأصدقاء‏.‏

فإن قلت‏:‏ قد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيف ينهى عنه فأقول‏:‏ إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقاً ولا تؤذي قلباً ولا تفرط فيه وتقتصر عليه أحياناً على الندور فلا حرج عليك فيه ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد وهو خطأ إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالإصرار ومن المباحات ما يصير صغيرة بالإصرار فلا ينبغي أن يغفل عن هذا نعم روى أبو هريرة أنهم قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا فقال ‏"‏ إني وإن داعبتكم لا أقول إلا حقاً وقال عطاء‏:‏ إن رجلاً سأل ابن عباس أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزج فقال‏:‏ نعم قال‏:‏ فما كان مزاحه قال‏:‏ كان مزاحه أنه صلى الله عليه وسلم كسا ذات يوم امرأة من نسائه ثوباً واسعاً فقال هلا ‏"‏ البسيه واحمدي وجري منه ذيلاً كذيل العروس وقال أنس‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أفكه الناس مع نسائه وروي أنه كان كثير التبسم وعن الحسن قال‏:‏ أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يدخل الجنة عجوز ‏"‏ فبكت فقال ‏"‏ إنك لست بعجوز يومئذ قال الله تعالى ‏"‏ إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً ‏"‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن زوجي يدعوك قال ‏"‏ ومن هو أهو الذي بعينه بياض ‏"‏ قالت‏:‏ والله ما بعينه بياض‏!‏ فقال ‏"‏ بل إن بعينه بياضاً ‏"‏ فقالت‏:‏ لا والله فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من أحد إلا وبعينه بياض ‏"‏ وأراد به البياض المحيط بالحدقة وجاءت امرأة أخرى فقالت‏:‏ يا رسول الله احملني على بعيد فقال ‏"‏ بل نحملك على ابن البعير ‏"‏ فقالت ما أصنع به إنه لا يحملني فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من بعين إلا وهو ابن بعير فكان يمزح به وقال أنس‏:‏ كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم ويقول ‏"‏ يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور‏.‏

وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فقال ‏"‏ تعالي حتى أسابقك فشددت درعي على بطني ثم خططنا خطاً فقمنا عليه واستبقنا فسبقني وقال ‏"‏ هذه مكان ذي المجاز وذلك أنه جاء يوماً ونحن بذي المجاز وأنا جارية قد بعثني أبي بشيء فقال ‏"‏ أعطينيه ‏"‏ فأبيت وسعيت وسعى في أثري فلم يدركني وقالت أيضاً‏:‏ سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته فلما حملت اللحم سابقني فسبقني وقال ‏"‏ هذه بتلك وقالت أيضاً رضي الله عنها‏:‏ كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة وجئت به فقلت لسودة‏:‏ كلي فقالت لا أحبه فقلت‏:‏ والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك فقالت‏:‏ ما أنا بذائقته فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً مه فلطخت به وجههاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بيني وبينها فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئاً فمسحت به وجهي وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك وروي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميماً قبيحاً فلما بايعه النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء - وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب - أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها وعائشة جالسة تسمع فقالت‏:‏ أهي أحسن أم أنت فقال‏:‏ بل أنا أحسن منها وأكرم فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤالها إياه لأنه كان دميماً‏.‏

وروى علقمة عن أبي سلمة أنه كان صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسن ابن علي عليهما السلام فيرى الصبي لسانه فيهش له فقال له عيينة بن بدر الفزاري‏:‏ والله ليكونن لي الإبن قد تزوج وبقل وجهه وما قبلته قط‏!‏ فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن من لا يرحم لا يرحم فأكثر هذه المطايبات منقولة مع النساء والصبيان وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم معالجة لضعف قلوبهم من غير ميل إلى هزل وقال صلى الله عليه وسلم مرة لصهيب وبه رمد وهو يأكل تمراً ‏"‏ أتأكل التمر وأنت رمد فقال‏:‏ إنما آكل بالشق الآخر يا رسول الله فتبسم صلى الله عليه وسلم قال بعض الرواة حتى نظرت إلى نواجذه‏.‏

وروي أن خوات ابن جبير الأنصاري كان جالساً إلى نسوة من بني كعب بطريق مكة فطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ يا أبا عبد الله ما لك مع النسوة فقال يفتلن ضفير الجمل لي شرود قال‏:‏ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم عاد فقال ‏"‏ يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد قال‏:‏ فسكت واستحييت وكنت بعد ذلك أتفرر منه كلما رأيته حياء منه حتى قدمت المدينة وبعد ما قدمت المدينة قال‏:‏ فرآني في المسجد يوماً أصلي فجلس إلي فطولت فقلا ‏"‏ لا تطول فإني أنتظرك ‏"‏ فلما سلمت قال يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد ‏"‏ قال‏:‏ فسكت واستحييت فقام وكنت بعد ذلك أتفرر منه حتى لحقني يوماً وهو على حمار وقد جعل رجليه في شق واحد فقال ‏"‏ أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد ‏"‏ فقلت والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت فقال ‏"‏ الله أكبر الله أكبر اللهم اهد أبا عبد الله ‏"‏ قال‏:‏ فحسن إسلامه وهداه الله وكان نعيمان الأنصاري رجلاً مزاحاً فكان يشرب الخمر في المدينة فيؤتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم فلما كثر ذلك منه قال له رجل من الصحابة‏:‏ لعنك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله ‏"‏ وكان لا يدخل المدينة رسل ولا طرفة إلا اشترى منها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏ يا رسول الله هذا قد اشتريته لك وأهديته لك فإذا جاء صاحبها يتقاضاه بالثمن جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا رسول الله أعطه ثمن متاعه فيقول له صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أو لم تهده لنا ‏"‏ فيقول‏:‏ يا رسول الله إنه لم يكن عندي ثمنه وأحببت أن تأكل منه فيحضك النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه فهذه مطايبات يباح مثلها على الندور لا على الدوام والمواظبة علياه هزل مذموم وسبب للضحك المميت للقلب‏.‏

السخرية والاستهزاء وهذا محرم مهما كان مؤذياً كما قال تعالى ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ‏"‏ ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه‏:‏ وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وقد يكون بالإشارة والإيماء وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة وفيه معنى الغيبة‏.‏

قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ حاكيت إنساناً فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا وقال ابن عباس في قوله تعالى ‏"‏ يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ‏"‏ إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن والكبيرة القهقهة بذلك‏.‏

وهذه إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر‏.‏

وعن عبد الله بن زمعة أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فوعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال ‏"‏ علام يضحك أحدكم مما يفعل وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب فيقال له هلم هلم فلا يأتيه وقال معاذ بن جبل‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير والضحك عليها استهانة به واستصغاراً له‏.‏

وعليه قوله تعالى ‏"‏ عسى أن يكونوا خيراً منهم ‏"‏ أي لا تستحقره استصغاراً فلعله خير منك‏.‏

وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به فأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزاح - وقد سبق ما يذم منه وما يمدح - وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به لما فيه من التحقير والتهاون‏.‏

وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم أو على أفعاله إذا كانت مشوشة كالضحك على خطه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته إذا كان قصيراً أو ناقصاً لعيب من العيوب‏.‏

فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها‏.‏

الآفة الثانية عشر إفشاء السر وهو منهي عنه لما فيه من الإيذاء والتهاون بحق المعارف والأصدقاء‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة وقال مطلقاً ‏"‏ الحديث بينكم أمانة وقال الحسن‏:‏ إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك‏.‏

ويروى أن معاوية رضي الله عنه أسر إلى الوليد بن عتبة حديثه فقال لأبيه‏:‏ يا أبت إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً وما أراه يطوى عنك ما بسطه إلى غيرك قال‏:‏ فلا تحدثني به فإن من كتم سره كان الخيار إليه ومن أفشاه كان الخيار عليه قال‏:‏ فقلت يا أبت وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين ابنه فقال‏:‏ لا والله يا بني ولكن أحب أن لا تذلل لسانك بأحاديث السر قال‏:‏ فأتيت معاوية فأخبرته فقال‏:‏ يا وليد أعتقك أبوك من رق الخطأ فإفشاء السر خيانة‏.‏

وهو حرام إذا كان فيه إضرار ولؤم إن لم يكن في إضرار‏.‏

وقد ذكرنا ما يتعلق بكتمان السر في كتاب آداب الصحبة فأغنى عن الإعادة‏.‏

الآفة الثالثة عشر الوعد الكاذب فإن اللسان سباق إلى الوعد ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفاً وذلك من أمارات النفاق قال الله تعالى ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم العدة عطية وقال صلى الله عليه وسلم الوأي مثل الدين أو أفضل والوأي‏:‏ الوعد‏.‏

وقد أثنى الله تعالى على نبيه اسمعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال ‏"‏ إنه كان صادق الوعد ‏"‏ قيل إنه وعد إنساناً في موضع فلم يرجع إليه ذلك الإنسان بل نسي فبقي اسمعيل اثنين وعشرين يوماً في انتظاره‏.‏

ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاة قال‏:‏ إنه كان خطب إلى ابنتي رجل من قريش وقد كان إليه مني شبه الوعد فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق‏!‏ أشهدكم أني قد زوجته ابنتي‏.‏

وعن عبد الله بن أبي الخنساء قال‏:‏ بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك فنسيت يومي والغد فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه فقال ‏"‏ يا فتى لقد شققت علي أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك وقيل لإبراهيم‏:‏ الرجل يواعد الرجل الميعاد فلا يجيء قال‏:‏ ينتظره إلى أن يدخل وقت الصلاة التي تجيء‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وعد وعداً قال ‏"‏ عسى وكان ابن مسعود لا يعد وعداً إلا ويقول إن شاء الله وهو الأولى‏.‏

ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي فهذا هو النفاق‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم‏:‏ إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أربع من كن فيه كان منافقاً ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من النفاق حتى يدعها‏:‏ إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وهذا ينزل على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقاً وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضاً كما يحترز من حقيقته ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذوراً من غير ضرورة حاجزة فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وعد أبا الهيثم بن التهيان خادماً فأتى بثلاثة من السبى فأعطى اثنين وبقي واحداً فأتت فاطمة رضي الله عنها تطلب منه خادماً وتقول‏:‏ ألا ترى أثر الرحى بيدي فذكر موعده لأبي الهيثم فجعل يقول ‏"‏ كيف بموعدي لأبي الهيثم فآخثره به على فاطمة - لما كان قد سبق من موعده له - مع أنها كانت تدير الرحى بيدها الضعيفة‏.‏

ولقد كان صلى الله عليه وسلم جالساً يقسم غنائم هوازن بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال‏:‏ إن لي عندك موعداً يا رسول الله قال ‏"‏ صدقت فاحتكم ما شئت فقال‏:‏ أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها قال ‏"‏ هي لك ‏"‏ وقال ‏"‏ احتكمت يسيراً ولصاحبه موسى عليه السلام التي دلته على عظام يوسف كانت أحزم منك وأجزل حكماً منك حين حكمها موسى عليه السلام فقالت حكمي أن تردني شابة وأدخل معك الجنة قيل فكان الناس يضعفون ما احتكم به حتى جعلا مثلاً فقيل‏:‏ أشح من صاحب الثمانين والراعي‏.‏

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليس الخلف أن يعد الرجل الرجل وفي نيته أن يفي وفي لفظ آخر ‏"‏ إذا وعد لرجل أخاه وفي نيته أن يفي فلم يجد فلا إثم عليه ‏"‏‏.‏

الآفة الرابعة عشرة الكذب في القول واليمين وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب‏.‏

قال اسمعيل بن واسط‏:‏ سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخطب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول - ثم بكى وقال ‏"‏ إياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار وقال أبو أمامة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الكذب باب من أبواب النفاق وقال الحسن‏:‏ كان يقال إن من النفاق اختلاف السر والعلانية والقول والعمل والمدخل والمخرج وإن الأصل الذي بني عليه النفاق الكذب‏.‏

وقال عليه السلام ‏"‏ كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت له به كاذب وقال ابن مسعود‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين يتبايعان شاة ويتحالفان يقول أحدهما‏:‏ والله لا أنقصك من كذا وكذا‏.‏

ويقول الآخر‏:‏ والله لا أزيدك على كذا وكذا بالشاة وقد اشتراها أحدهما فقال ‏"‏ أوجب أحدهما بالإثم والكفارة وقال عليه السلام ‏"‏ الكذب ينقص الرزق وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن التجار هم الفجار ‏"‏ فقيل يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع قال ‏"‏ نعم ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاثة نفر لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم‏:‏ المنان بعطيته والمنفق سلعته بالحلف الفاجر والمسبل إزاره وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما حلف حالف بالله أدخل فيما مثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة وقال أبو ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاثة يحبهم الله‏:‏ رجل كان في فئة فنصب نحره حتى يقتل أو يفتح الله عليه وعلى أصحابه ورجل كان له جار سوء يؤذيه فصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن ورجل كان معه قوم في سفر أو سرية فأطالوا السرى حتى أعجبهم أن يمسوا الأرض فنزلوا‏.‏

فتنحى يصلى حتى يوقظ أصحابه للرحيل‏.‏

وثلاثة يشنؤهم الله‏:‏ التاجر أو البياع الحلاف والفقير المختال والبخل المنان وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القول ويل له ويل له وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي قم فقمت معه فإذا أنا برجلين أحدهما قائم والآخر جالس بيد القائم كلوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله ثم يجذبه فليقمه الجانب الآخر فيمده فإذا مده رجع الآخر كما كان فقلت للذي أقامني ما هذا فقال‏:‏ هذا رجل كذاب يعذب في قبره إلى يوم القيامة وعن عبد الله بن جراد قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هل يزني المؤمن قال ‏"‏ قد يكون ذلك ‏"‏ قال‏:‏ يا نبي الله هل يكذب المؤمن قال ‏"‏ لا ‏"‏ ثم أتبعها صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى ‏"‏ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ‏"‏ وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول في دعائه ‏"‏ اللهم طهر قلبي من النفاق وفرجي من الزنا ولساني من الكذب وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏:‏ شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر وقال عبد الله بن عامر‏:‏ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغيرة فذهبت لألعب فقالت أمي‏:‏ يا عبد الله تعالى حتى أعطيك فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وما أردت أن تعطيه ‏"‏ قالت تمراً فقال ‏"‏ أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو أفاء الله على نعماً عدد هذا الحصى لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً‏:‏ وقال صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً ‏"‏ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ثم قعد وقال ‏"‏ إلا وقول الزور وقال ابن عمر‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن العبد ليكذب الكذبة ليتباعد الملك عنه مسيرة ميل من نتن ما جاء به وقال أنس‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تقبلوا إلي بست أتقبل لكم بالجنة ‏"‏ فقالوا وما هن قال ‏"‏ إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا ائتمن فلا يخن وغضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن للشيطان كحلاً ولعوقاً ونشوقاً‏:‏ أما لعوقه فالكذب وأما نشوقه فالغضب وأما كحله فالنوم وخطب عمر رضي الله عنه يوماً فقال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي هذا فيكم فقال ‏"‏ أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل على اليمين ولم يستحلف ويشهد ولم يستشهد وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من حلف على يمين بإثم ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنه رد شهادة رجل في كذبة كذبها وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كل خصلة يطبع أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما كان من خلق أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع على الرجل من أصحابه على الكذب فما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه قد أحدث توبة لله عز وجل منها‏.‏

وقال موسى عليه السلام‏:‏ يا رب أي عبادك خير لك عملاً قال من لا يكذب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه‏.‏

وقال لقمان لابنه‏:‏ يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلهم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه‏.‏

وقال عليه السلام في مدح الصدق ‏"‏ أربع إذا كن فيك لا يضرك ما فاتك من الدنيا‏:‏ صدق الحديث وحفظ الأمانة وحسن خلق وعفة طعمة وقال أبو بكر رضي الله عنه في خطبة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقامي هذا عام أول - ثم بكى - وقال ‏"‏ عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة وقال معاذ‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وبذل السلام وخفض الجناح‏.‏

وأما الآثار‏:‏ فقد قال علي رضي الله عنه‏:‏ أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب وشر الندامة ندامة يوم القيامة وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه‏:‏ ما كذبت كذبة منذ شددت علي إزاري‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم اسماً فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقاً فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة‏.‏

وعن ميمون بن أبي شبيب قال جلست أكتب كتاباً فأتيت على حرف إن أنا كتبته زينت الكتاب وكنت قد كذبت فعزمت على تركه فنوديت من جانب البيت ‏"‏ يثب الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ‏"‏ وقال الشعبي‏:‏ ما أدري أيهما أبعد غور في النار الكذاب أو البخيل وقال ابن السماك‏:‏ ما أراني أوجر على ترك الكذب لأني إنما أدعه أنفه‏.‏

وقيل الخالد بن صبيح‏:‏ أيسمى الرجل كاذباً بكذبة واحدة قال‏:‏ نعم وقال مالك بن دينار‏:‏ قرأت بعض الكتب ما من خطيب إلا وتعرض خطبته على عمله فإن كان صادقاً صدق وإن كان كاذباً قرضت شفتاه بمقاريض من نار كلما قرضتا نبتتا‏.‏

وقال مالك بن دينار‏:‏ الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه وكلم عمر بن عبد العزيز الوليد بن عبد الملك في شيء فقال له‏:‏ كذبت فقال عمر‏:‏ والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه‏.‏